أنا وشجرة التوت

عمر الانسان كالشجرة .
يبدأ من البذرة تنبت في الأرض , ثم تنمو وتكبر , وتتفرع وتورق , ثم تزهر وتعيش ربيع الحياة , تهوي اليها الطيور المغردة , بجمالها
وتبني أعشاشها فوقها , وأحيانا تأكل من ثمارها عندما تثمر , فاذا جاء خريف هذه الشجرة الأخير , رحلت عنها الطيور باحثة عن غيرها
من الأشجار الفتية الخضراء لتعيد بناء أعشاشها من جديد .
والشجرة سعيدة بكل من يستظل بظلها , أو يأكل من ثمارها المتجددة , أو يستعين بفروعها فيما يفيده أو ينفعه . تعطي بلا تمنع , ولا تنتظر شكرا من أحد , راضية بحياتها وبقائها عبر الفصول التي تمر عليها , من صيف حار , الى شتاء بارد , وربيع أخضر مزهر , وحتى في كل خريف يمر بها , تشعر بأن هناك موسما ستجدد فيه أوراقها وتغطي سياقنها وفروعها العارية لتجذب الأنظار اليها من جديد .
أما هذا الخريف الأخير , فقد وقفت الشجرة مفكرة في الكدمات الكبيرة التي أصابتها من كثرة ما قطع منها من الفروع , وما مر بها من أحداث الزمن ,وتعرت الأرض عن جذورها التي كانت تغوص فيها , وشاهدتها ترقد حول جزعها راغبة في أن يدفنها صاحبها في جوف الأرض لتشعر بالراحة والأمان .
وصعب على عصير الماء أن يمتد الى أطراف الأفرع البعيدة فجفت وذبلت وصارت لاتقوى على حمل طائر غريب يقف عليها فتتكسر به , فيطير بعيدا بعد أن جرحت أجنحته بخربشاتها فيه .
ومر صاحب الشجرة فرآها خاوية على عروشها , تشغل مكانا كبيرا بلا فائدة , ففكر ماذا يفعل بها , وخاطبه لسان حالها قائلا : كم يا صاحبي
انتفعت بأوراقي وثماري وفروعي وظلي طوال السنين التي عشتها لك ولغيرك , وتريد اليوم أن تقطع ما تبقى مني لأني عجزت وتقاعدت عن العطاء , ولكني مازلت على قيد الحياة .
فقال صاحبها : ولكنك لم تعودي لك اهتمامات في البقاء , تكاسلت عن التوريق والازهار والاثمار يا توتتي الكبيرة .
وهبت عاصفة خريفية برياح شديدة , فاحتمى الرجل في أحضان جزع شجرة التوت العملاقة الراسخة حتى هدأت الريح
وأحس وهو يحتضن شجرته أنه أنقذته أن تطيح به رياح العاصفة الشديدة , فتنهد وحمد الله على نجاته وقال :
وماذا أفعل بك يا شجرتي الغالية ؟
فأجاب لسان حال الشجرة يقول : ألا ترى أنك قد لجأت الي جزعي واستندت اليه عندما خفت من الريح .؟!
يمكنك أن تقطع فروعي الجافة , وتصنع بها كوخا هنا بجوار جزعي الصامد في أعماق الأرض تأوي اليه عند هبوب الرياح , وفي حر الظهيرة . ولقد قرب الربيع , ولديك ( فريع صغير تولد من ساقي بالقرب من الأرض ) أفرغ فيه عصارة سويعات عمري الباقية حتى يكون امتدادا لي من بعدي , يمدك بالتوت الذي كنت تحبه , أرعه بعنايتك وأنا سأساعدك اذا رويته بعد أن تدفن بقية جزعي في الأرض دون أن تخلع الجذور , وبذلك تكون قد أديت الى خدمة كبيرة
سأظل أذكرها لك بعد موتي .
وفكر الرجل مقتنعا بفكرة شجرة التوت العتيقة . وقام من فوره بتنفيذها .
لكنه كان قد وصل الى شيخوخته وتضعضعت صحته , ولم يعد يقوى هو الآخر على البقاء , وما أن أخذ ينشر في جزع الشجرة . حتى تهاوت بفروعها الضخمة الجافة فوق الرجل , وسقط ميتا تحت فرع غليط طرق رأسه بعنف .
وهرول ابنه وهو يرى الحادث من بعيد , لكن الأجل قد سبقه ولقي الرجل حتفه , فقام الابن بدفن والده بجوار جزع شجرة التوت , وغطى الجزع بالتراب تاركا الفرع الصغير النامي دون أن يلتفت اليه .
وجاء الربيع واخضر الفرع وترعرع وبدأ يكبر من جديد كمولود يبدأ حياة جديدة مع ابن الرجل العجوز .

تعليقات

‏قال أحمد خفاجي
اخي الفاضل الأستاذ حسني تحياتي علي هذه الكتابة الأدبيه المحملة بالحكمه والاصاله

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )