الاختلاف الصوتي بين الفصحى والعامية

بين اللهجة المصرية واللغة العربية

هذا بحث عن التطور اللغوي
***************
وما فعلته اللهجة المصرية باللغة العربية الفصحى من تغييرات تتقارب أو تتباعد منها أو عنها .
كتبت هذا البحث وأنا بالسنة الرابعة من كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1964في 18 إبريل 1964 وقدمته للدكتور كمال بشر أستاذ علم اللغة بالكلية .
=============
من البديهي أن اللغة ديناميكية متحركة , فليست جامدة ولا ساكنة , وإنما تتغير وتتطور دائما وأبدا , وإن كان لا يحس بها كثير من الناس . لأن التغيير الذي يصيبها يأتي على مهل وبالتدريج .
ويبدأ التطور عادة بالابتداع الفردي , وبعد أن ينجح الابتكار ويشيع تلتقطه الجماعة اللغوية المعنية , وتنكب على استعماله وبمرور الزمن يصبح هذا التغير الجديد جزءا لايتجزأ من اللغة وصورة أساسية منها .
فالابتكار دائما عمل فردي ثم يصبح بعد فترة عملا جماعيا ليلاقي القبول والاستقرار, وهذا شأن كل تطور.
والتطور اللغوي يكون أظهر وأسرع في بعض قطاعات اللغة منه في بعض القطاعات الأخرى .
فهناك تطور في الأصوات).وتطور في النحو والصرف).وتطور في معاني الألفاظ ).
وليست العربية بدعا من اللغات في هذاالشأن , فنظرة فاحصة في تاريخ اللغة العربية تكشف لنا عن حقائق مذهلة في مضمار التطور اللغوي الذي أصابها منذ القديم , حتى قبل عصر التدوين , وإن لم يعترف به قدماء علماء اللغة العربية بل إنهم أنكروه .فقد وقفوا الاستشهاد بالكلام العربي منذ منتصف القرن الثاني الهجري حيث لاحظوا آنذاك أن اللغة قد أصابها شيء من التغيير بسبب انتشار العربية في ركب الإسلام إلى البلاد المفتوحة الواسعة , غير أنهم نظروا إلى هذا التغيير نظرة ليست علمية فاعتبروه صورة من الأخطاء اللغوية , ونسوا أو تناسوا أن هذا ما هو إلا تطور طبيعي للغة وكونهم يقبلون هذا التطور أو لايقبلونه فهذا شيء كان ينبغي ألا يؤثر على عملهم في تدوين اللغة وتسجيل ما يطرأ عليها من تغير .ثم يحكموا بخطئه أو صوابه .
وهكذا قد حرمنا نحن المحدثين من التعرف على ما أصاب اللغة في عهودها المختلفة من تغير وتطور , فعندما يتحدث علماء اللغة المحدثين عن تلك الظاهرة في العصور السحيقة فكلامهم بشيء من الافتراض والتخمين لعدم وجود المادة الكافية التي تساند نظرياتهم البحثية في تطور اللغة القديمة .
ونلمس الآن ذلك التطور في اللهجات المختلفة في العربية الحديثة , حتى لو قارنا تلك اللهجات بعضها ببعض لتوصلنا إلى وجوه اختلاف كبيرة بينها .
ويكفي أن ننظر في عجالة إلى مظاهر التطور في اللهجة المصرية إذا ما قيست بأمها اللغة العربية الفصحى :
سوف يتأكد لنا وجود مظاهر التطور في:
1- الأصوات :
لقد تطورت اللهجة المصرية في النواحي الصوتية تطورا كبيرا ,واضحا وإن لم يشعر به بعض الناس, ولكن التدقيق في الموضوع يصل بنا إلى الحقائق التالية :
* تغيرت الأصوات من حيث النطق فمثلا : نطق ( الذال) التي انقلبت في العامية إلى (دال) أو (زاي).
*(نطق الثاء) التي تغيرت إلى (سين أو تاء)
*(نطق الجيم) هذا الحرف العجيب الذي جعلنا في حيرة أمام صوته فالأقوال المنسوبة إلى علماء اللغة القدامى متضاربة بل متناقضة فقد وردت إلينا عن طريقة قراءة القرآن الكريم كما لو كانت صوتا انفجاريا احتكاكيا , ولكنا نرى في كلام بعض القدامى ما يشير إلى أنها كانت انفجارية فقط مثل (الجيم القاهرية)في :جمال بل إن بعض القراءات القرآنية قد سجلت لنا هذا الرأي الأخير فجاء في قراءة بعضهم لقوله تعالى (حتى يلك الجمل في سم الخياط)وحيرتنا تنشأ من هذه القراءة هل هذا الصوت :كاف أم جيم انفجارية يحتمل!!
غير أننا لم نسمع منهم أن الجيم (الانفجارية الاحتكاكية) ولم يرد إلينا أنها تقلب كافا , فيبقى الاحتمال الثاني وهو أن هذه الآية تقرأ بالجيم القاهرية الانفجارية لما ورد عن بعض العلماء كما ذكرنا سابقا من أن بعض القبائل كانت تنطق الجيم العربية كما تنطق الجيم القاهرية اليوم وقد نسبوا هذا النطق إلى بعض القبائل اليمنية .أو لعل الناسخ في قراءة هذه الآية يقصد بالفعل الجيم القاهرية غير أنه لم يجد رمزا يرمز به لهذا الصوت , إذ لو رمز بالجيم العادية فسوف ينطقها الناس بالجيم الانفجارية الاحتكاكية ومن ثم انتقل إلى رمز أقرب صوت إلى هذه الجيم وهو الكاف إذ لافرق بين الكاف والجيم إلا الجهر والهمس فالجيم مجهورة والكاف مهموسة.
ومن المحتمل أنه أراد أن يصورها بالكاف الفارسية التي فوقها شرطة وهي تنطق كما هو معروف مثل الجيم القاهرية.
ومن مشكلات الجيم أيضا ذلك النطق في بعض مناطق الصعيد وبعض مناطق الوجه البحري لغير المثقفين وهو قلب الجيم (دالا), وهذا يجعلنا نتساءل هل هذا الصوت ( الجيم) هو ما ننطقه في القاهرة الآن أم هو تصوير للحقيقة القديمة ؟!!
وننتهي إلى أن هناك حقيقة وهي تغيير حدث لذلك الصوت .(الجيم) يحتاج إلى تفسير.
ومثل:( نطق الظاء) التي أصبحت تشبه الزاي الفخمة .
ويشبه حرف ( الجيم)في مشكلاتها حرف ( القاف): وهو حرف لهوي مهموس بحسب ما ورد إلينا من قراء القرآن الكريم ولكنا رأينا وصفا لذلك الحرف عند سيبويه يخالف هذا الوصف إذ عدّ هذا الصوت مجهورا , وحينئذ يختلط صوت القاف بصوت الكاف مايشبه(الجيم القاهرية) أو ربما سجل سيبويه وصفا لصوت لم يكن شائعا ولم يسجل وصف الصوت الأصلي اللهوي المهموس للقاف وهو صوت ينطق الآن في القاهرة كما لو كان همزة . (قال =آل) باللهجة القاهرية .
أما صوت الحرف الأصيل في اللغة العربية وهو ( الضاد) فله مشكلة أخرى مع اللهجة المصرية الحديثة :
فكل ما قرأناه عن اللغويين القدامى يقرر تقريرا يفيد أن هذا الصوت يختلف عنه في النطق الحديث , وأظنك لم تنس قول سيبويه :’’ لولا الإطباق لصارت الصاد سينا , والطاء دالا , والظاء ذالا , ولخرجت الضاد من الكلام .’’ومعنى هذا أن الضاد لا أخت لها في الأصوات العربية حسب رأيهم , أما الذي نعرفه الآن حسب نطقنا الفعلي وهو أن الضاد لها أخت هي ( الدال) وهذا يدل على أن الضاد كانت تنطق آنذاك بصورة تختلف عن نطقنا الفعلي الآن !! ماهذا النطق ؟ لاندري على وجه الدقة .
ووصف آخر للشيخ سيبويه لهذا الصوت (الضاد) يفيد أنها صوت جانبي فإذا أضفنا هذه الحقيقة إلى بقية ما قالوه عن هذا الصوت (الضاد) أمكننا أن نخمن أنها كانت تنطق بصوت بين الضاد الحالية والظاء الحالية كما يظهر في بعض اللهجات المغربية والعراقية .!!
ويقودنا التخمين العلمي طبقا لقوانين التطور الصوتي إلى أن كثيرا من الأصوات في اللغة العربية منعزلة أو متصلة في كلمات قد أصابها شيء من التغيير يدل على ذلك ما نلحظه في الوقت الحاضر من كثرة من يحاولون نطق الأصوات الحالية المتطورة بالفعل نطقا جديدا كما نراه في الأغلب عند السيدات من الميل إلى ترقيق الضاد والراء , وإكساب وإعطاء بعض الأصوات صفات ثانوية لاتعرفها اللغة العربية .
ويظهر هذا بوجه خاص في نطق مثل :الكاف , والتاء , والدال فبعض السيدات يعمدن أو لايعمدن ــ الله أعلم ــ إلى إلحاق هذه الأصوات بهاء خفيفة أو ما يسمي في الإنجليزية بـ(aspiration )هذا ما يخص الأصوات المنعزلة ,
فإذا ما اختبرنا الأصوات كلمة أو كلمات وجدنا تغيرات ضخمة تضاف إلى التغيرات التي سبقت ,ثم إذا انتقلنا إلى الوحدات الصوتية المنطقية وهي المقاطع الكلامية وجدنا اختلافا بينا بين اللهجات واللغة الفصحى في كل صفات المقطع من حيث الكم والكيف ومن حيث موقع النبر ففي اللغة الفصيحة مثلا :نجد أن كلمة ( ضرب) مكونة من ثلاثة مقاطع على حين أن نظيرتها في العامية (ضربْ) مكونة من مقطعين اثنين وتغيير صفات المقاطع يقتضي حتما تغيير مواقع النبر وهذا يتضمن خلافا جديدا بين اللغة واللهجة أو اللغة الحديثة .
فإذا ما انتقلنا إلى مرحلة أعلى وهي مرحلة الجملة وجدناها في القديم تختلف عنها في الحديث في بعض المظاهر الصوتية أهمها التنغيم وصوره فمن المعروف أن لكل لغة نظامها التنغيمي المعين , فالتنغيم في العامية المصرية يختلف عنه في الفصيحة إلى حد ما وبخاصة في تلك الجمل المعروفة بالجمل الاستفهامية . ففي القديم كانت اللغة العربية تعتمد على شيئين: التعرف على الجمل الاستفهامية التي تقتضي الإجابة عنها بـ (لا) أو (نعم) وبالتعرف على أداة الاستفهام نفسها وهي: هل والهمزة ثم التنغيم
أما في العامية : فإننا نعتمد أولا وأخيرا على شيء واحد هو التنغيم .
ذلك أن أدوات الاستفهام في هذه الجمل قد نبذت وطرحت نهائيا , ويشبه هذا الفرق تلك الفروق التي نلحظها في التنغيم في جمل أخرى كثيرة كجمل التحقير والتعظيم والزجر والمدح ......إلخ فصور التنغيم في اللغتين ( الفصحى والعامية)مختلفة إلى حد واضح مما يستحق دراسة مستقلة مفصلة لمن شاء البحث!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )