بين الأصالة والحداثة .مع سن القلم ولحن (الكيبورد )

بين القلم واللوحة
المرء لايستغني عن القلم
والتطور لايأتي باللوحة وحدها
وإن كان في حاجة إلى مفاتيح العصر .
قد يكون الحبر جافا أو سائلا , وقد يكون رصاصا , المهم أنه ينساب بلا عناد طواعية لفكر صاحبه وتوجيه إلهامه .على صفحات بيضاء فارغة , في كراسة أو في أوراق متناثرة تلم شعث الحروف المكتوبة , وتطويها في سطور الخواطر أو الأشعار أو السرد القصصي .
بينما يكون النقر دقات متتالية لها لحن التلغراف القديم , الذي كان يتناغم مع نقرات الموظف على آلة ( التلغراف ) أو البرق برموز معينة يفهمها المتلقي هناك في الطرف الآخر , ويترجمها إلى معاني وكلمات .
ثم تطور الأمر فجاء ( الكمبيوتر ) أو الحاسوب التقني الحديث , واختار معه بدل القلم , لوحة المفاتيح المعروفة باسم ( الكيبورد )
وتدربت عليها نفس الأصابع التي أمسكت بالقلم وسجلت به أروع الصفحات المكتوبة , فأصبحت تسمع بدل الحفيف الصادر من سن القلم مع قلب الصفحات كلما امتلأت بالكلمات , نقرًا متواصلا من دق الأصابع على اللوحة الشهيرة المصاحبة لجهاز( الكمبيوتر ) كلما هفت نفس الأديب أو الكاتب إلى التعبير عما مكنون نفسه وإلهامات فؤاده .
وعلى مكتب الأديب تجد المقلمة تراصت بها أنواع من الأقلام المختلفة بين الرصاص والجاف والحبر , وفي طرف المكتب من الجهة ذاتها
تنبسط أسارير لوحة مفاتيح الكمبيوتر , وهي سعيدة بإهمال الأديب لهذه المقلمة العتيقة المحشوة بالأقلام , فخورة بأن هذا الزمان زمانها .
وكأني بلسان حالها يتحدث إلى القلم قائلا :
ما لك أيها ( النحيف ) واجما صامتا , تجلس هنا بجواري ؟!
ألا تجد لك مكانا آخر تدفن نفسك فيه , بعد أن نساك صاحبك , ولم يعد بحاجة إليك بعد زفافي عليه , وعشقه للنقر فوق مفاتيحي !!؟
لقد جفَّ مدادك , وقُصِفَ سِنُّكَ , وفرغ حِبْرُكَ . لقد عفى عليك الدهر , ولم تعد لك فائدة بعد اختراعي وسهرلة الدق علي حروفي .
لتسطر لصاحبي ما يريد على صفحات ناصعة بأفانين خطوطي المتطورة , والتي عجزت عن منافستها بهرمك وقدمك ونحافتك .
وكأني بأعماق القلم يلتهب غيظا من هذا الحوار المتهكم الساخر ولكنه كظم غيظه ولم يرد , فاستطرت اللوحة في حديثها المتعالي في كبرياء
: إنك يا صديقي أصبحت قطعة من الآثار , مكانك في المتحف ليتفرج عليك الزوار , ويتذكروا بك ماضي الكتابة المندثر .
وواصلت اللوحة استفزازها للقلم قائلة : أقترح عليك أن تنتحر . أو تنفجر !! وبعدها يأتي الخبر على صفحات الجرائد والصحف الالكترونية يقول: انتحار قلم يئس من حياته، قالتها وقد انبعثت منها ضحكات متتالية؛ قطعها صرخة القلم: كفى. كفى , مالك تتحدثين بهذه الغطرسة الكاذبة , واللهجة الساخرة ؟!!
فردت اللوحة بهدوء : أليس هذا حقي ؟! أليس هذا عصري وزماني ؟! ألست حبيبة القلوب العاشقة للحاسوب ؟! وللكتابة بالنقر المحبوب !؟!
إنني أنا الأسرع , وأنا الأتقن في الخط والتعديل والتصويب دون كشط أو تشويه منك أيها القلم المسكين . أنا السهلة الألوان والتنسيق بأي
شكل يريد الكاتب أو الأديب . بمختلف الأحجام والأشكال . هل تريد أن تسمع المزيد من المزايا التي فقت فيها عليك ؟!
فأجاب القلم في تواضع ورزانة : أنا لاأنكر ميزاتك التي ذكرت . ولكنك تغافلت عن أني مازلت كائنا حيا نابضا في يد الكاتب لايستغني
عني .!
قالت : إنك ماضٍ عفى عليك الزمن . وكدت أن تنقرض كالديناصورات القديمة .
قال القلم : أصغ إليَّ أيتها المعاندة , ألا تعلمين أنني أول مخلوق خلقه الله تعالى , وخط بي في اللوح المحفوظ .؟!
لقد سجلت تاريخ الأمم والحضارات , والعلوم والفنون والآداب والنظريات العلمية التي استلهم منها العلماء مفاتيح التوصل إلى اختراعك
للوجود .
استطرد القلم وقد بدأ صوته يرتفع : لقد حفظتني الأيام والأعوام منذ القدم حتى الآن لم أندثر بل ازداد تنوعي واختلف شكلي ولوني , ويستنجد بي صاحبي عندما يفتقد وجودك معه بعيدا عن جهازك المشغل لك في سفره أو سريره أو رحلته فأسعفه في تسجيل خواطره قبل أن تختفي .
قالت اللوحة : نعم أنت كذلك لكنه يعود إلي مشتاقا للنقر لا للحبر ليسجل بي أبهى السطور .
قال القلم : كيف يصف الناس براعة الكاتب ؟ ألا ترين أنهم يقولون: صاحب القلم السيال، صاحب القلم الرشيق....أعلمت ذلك؟
تابع القلم حديثه في ارتياح وقد بدأ الصمت يطبق على اللوحة بعد أن غادرها صاحبها :
أرأيت لو أن التيار قد انقطع، هل سيكون لك فائدة حينذاك؟
أرأيت لو نضبت الطاقة من الأرض، وفقدت مقومات حياتك،
هل سيكون لك وجود في عالم الكتابة؟
هنا قالت اللوحة بصوت هزيل بعد فترة من الصمت:الحق معك، لقد أعماني بريق الشهرة عن رؤية هذه الحقائق،
أنا فعلا جد آسفة، كنت مخطئة في حقك أيها القلم .
أراد القلم أن يعيد إلى لوحة المفاتيح ثقتها وإعجابه بها فقال :
إذا كنت يا أختاه تمثلين الحداثة والتطور والجدة والابتكار , فلا تنسي أنني أمثل الأصالة والعراقة وبدء فن الكتابة على سني أو مدادي
نحن متكاملان أنت تتحدثين بالمعاصرة وأنا أتحدث بالقِدَم وكلانا لايستغني عن الآخر . لأننا أساس نهضة الأمم فلا تقوم أمة على الحاضر دون التزود من تراث الماضي الأصيل والاستفادة منه وتطوره وتقدمه . وكأني بلسان حال لوحة المفاتيح , وهي تقبل أن تعانق القلم ,
وتقبله خطيبا لها في عرس الحضارة الحديثة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )