قصيدة وتحليل لغوي وبلاغي.

قصيدة لغة الضاد 
للشاعرة العراقية صباح الحكيم


أنا لا أكتبُ حتى أشتهرْ
لا ولا أكتبُ كي أرقى القمرْ
تواضع أدبي مرموق من أنا الشاعرة صباح الحكيم، وهي تخبرنا بلغة النفي الأقوى ثباتا وإعلاما ، في تكرارها لحرف النفي (لا) وبيان الغاية والهدف المؤخر للتشويق في استخدام حتى ( الغائية )( وكي ) السببية ، مع التناغم الجميل في توافق الحروف وتناسقها بين أرقى والقمر فيما يشبه الجناس الناقص البلاغي ، فما هو سر كتابتها ؟!
أنا لا أكتب إلا لغة
في فؤادي سكنت منذ الصغرْ

إنها تكتب لعشقها وهيامها بساكنة الفؤاد منذ نطقت باسمها
لغة حية مشخصة في استعارة مكنية رائعة تتخذ من القلب سكنا مع إبراز التخصيص لهذا الحب للغة، في ذكرها ياء المتكلم ( في فؤادي )
لغة الضاد و ما أجملها
سأغنيها إلى أن أندثرْ
تهتف الشاعرة بأغلى اسم تنادي به معشوقتها ( لغة الضاد)
وتُردف التصريح بهواها بجملة التعجب من جمالها الذي أسرها ، وجعلها تنشدها وتتغنى بها مادام فيها حياة
سوف أمضي في رباها عاشقاً
أنحتُ الصخر و حرفي يزدهرْ
وتنوع الشاعرة بين حروف الاستقبال ( السين وسوف )و في التنزيل العزيز: وتَنْحِتُونَ من الجبال بيوتاً آمنين.
فاستمرارية الإنشاد والتغنى بالكتابة باللغة العربية ، يعقبها في المدى البعيد التنقل في بستانها ومرتقياتها العالية ( رباها) هائمة بها ، استعارة مكنية تجعل للغة ربًا معشوقة، والصياغة البيانية من حروفها وكلماتها نحتًا واشتقاقا في إبداعها،الذي يروي القصائد التي تصوغها فتزهر الحروف جمالا (تصوير رائع لاستعارة الألوان والزهور لجمال تراكيب حروفها)
لا أُبالي بالَذي يجرحني
بل أرى في خدشهِ فكراً نضرْ
وكما عودتنا الشاعرة بالتعبير بالنفي عما تخبرنا به لثبيت قوة فكرتها، تراها هنا لاتهتم وهي تقطف من جنى اللغة وحروفها المزهرة لتبني قصائدها بجراح المعاناة وهي تنحت الكلمات ، أو بكلام أعداء اللغة المثبطين ، وتضرب عرض الحائط عنهم ( مستخدمة بل الإضرابية) بيقينها ورؤيتها أن تلك الجراح وما تصيبها به من خدوش والخُدُوش الآثار
قال أَبو منصور: الخَدْشُ والخَمْشُ بالأَظافرِ.
 يقال: خدَشَت المرأَة وجهها فأَدْمته أَو لم تُدْمه.
وخدْشُ الجلد: قشره بعود أَو نحوه، والخُدُوشُ جمعه لأَنه سمي به الأَثر، وإِن كان مصدراً
.هي ما ينضج فكرها ويقويه ويجعله نضرا زاهيا ، بصمودها عاشقة لتلك اللغة .( وهذا تصوير تشبيهي تجسيدي للمعنوي؛ الفكر النضربخدش النقد وأثره )
أتحدى كل مَنْ يمنعني
إنه صاحب ذوقٍ معتكرْ
ثقة فيها تحدٍ شامخ تواجه به جميع من يمنعها من الكتابة لقصائد عشقها باللغة العربية،مؤكدة (إنه) لايرقَ إلى مستوى تذوق تلك اللغة( استعارة مكنية تسخر فيها من تعكير الذوق كالمياه غير الصافية فهي تبرز المعنوي وهو الذوق في صورة محسوسة في صفة الماء المعتكر ) عَكِرَ الماءُ والنبيذُ عَكَراً إِذا كَدِرَ.
 حتَّى إذا ما أضاءَ الصُّبح وانبعَثَتْ = عنه نَعامةُ ذي سِقْطين مُعْتَكِرِ

يقال إنَّ نعامة الليل سوادُهُ، وسِقْطاه: أوَّلُهُ وآخره. يعني أنّ الليل ذا السقطينِ مضَى وصَدَقَ الصُّبْحُ.

أنا جنديٌ و سيفي قلمي
و حروف الضاد فيها تستقرْ
إنها حارسة على اللغة بسلاح كلماتها وإبداعاتها ( تشبيه بليغ في ( أنا جندي )و ( استعارة تصريحية في كلمة ( جندي )  وتشبيه بليغ مقلوب ( المشبه به القلم والمشبه به سيف الشاعرة ، وتلمس التعاضد بين الصورتين ( الجندي ووسيلة الدفاع لديه والقلم لدى الأديبة الماهرة شاعرتنا القديرة) ثم ترمز باسم اللغة العربية ( حروف الضاد) إلى استهداف ثباتها واستقرارها أمام قوتها وتمسكها بمعشوقتها والدفاع عنها. فكأن قلق اللغة من إهمال أهلها في الإبداع بها والدفاع عنها جعل أعداءها يطمعون في النيل منها.والشاعرة تقف لهم صامدة متحدية قوية.
سيخوض الحرب حبراً قلمي
لايهاب الموت لايخشى الخطر
مازالت الشاعرة تنوي مواجهة قلمها الذي صورته بالسيف من قبل
يمتليء برصاصات الكلمات المعبأة في أحباره حربا مع أعداء اللغة
لا يخشى فيها الموت والأخطار
والشاعرة هنا استخدمت أسلوب التقديم والتأخير البلاغي فقدمت المفعول به ( الحربَ ) التي سيخوضها ( قلمي) الفاعل المؤخر، ثم صاغت حالا من الحرب المعرفة أو من قلمي المعرف بالإضافة وهي ترمز بالحال إلى لون تلك الحرب ( سوداء) بالنسبة لمن يهاجم اللغة ، ورعبا ودمارا من انطلاق حروف وكلمات قلمها ضدهم، وهي استعارات مكنية متتالية لتوضيح فكرتها.
لكني أرى في تقديمها ( لايهاب الموت) القوي الإفادة عن الصمود حتى الشهادة في الدفاع ، لايناسبه ذكر ( لايخشى الخطر) بعد ذلك
فأي خطر بعد تحدي الموت وعدم هيبته، ولو قدمت الجملة الثانية على الأولى لكان أوقع بلاغيا ، لكن قافية المقطع ربما اضطرتها.
قلبيَ المفتون فيكم أمتي
ثملٌ في ودكم حد الخدرْ
والثَّمَل السُّكْر. ثَمِل، بالكسر، يَثْمَل ثَمَلاً، فهو ثَمِل إِذا سَكِر وأَخذ فيه الشَّرابُ؛
 قال الأَعشى:
 فَقُلْت للشَّرْب في دُرْنَى، وقد ثَمِلوا: شِيمُوا، وكَيْف يَشِيمُ الشَّارب الثَّمِلُ؟
و قيل: الثُّمالةُ الماء القليل في أَيّ شيء كان.
والخَدَرُ في العين: فتورها، وقيل: هو ثِقَلٌ فيها من قَذًى يصيبها؛ وعين خَدْراءُ: خَدِرَةٌ.
والخَدَرُ الكسَلُ والفُتور؛ وخَدِرَتْ عظامه؛ قال طرفة:
 جازَتِ البِيدَ إِلى أَرْحُلِنَا، آخِرَ الليلِ، بِيَعْفُورٍ خَدِرْ خَدِرٌ
: كأَنه ناعس.
في ارتقاء العلم لا لا أستحي
أستجد الفكر من كلِّ البشرْ
تعود الشاعرة إلى طموحها في تطور علمها ومعرفتها وسبل ارتقائها بلغتها في تواضع تؤكده في تكرار نفيها للخجل من طلبه ب( لا لا ) استجداء الأكثر علما وفكرا أن يفيدوها ، ثم تبدع في تصوير منزلة العلم العالية واتخاذ وسيلة الوصول ( الارتقاء إلى قمتها ) س. م.
أنا كالطير أغني ألمي
و قصيدي عازفٌ لحن الوترْ
وتحلق الشاعرة كالطير ( في تشبيهها لنفسها) مغردة بآلامها لرؤيتها لحال معشوقتها اللغة وما يصيبها من كدمات الاستخدامات الخاطئة ، والهجوم الباطل ، تعزف لحن الوفاء الذي تنشده بقصائدها الراقية .( التشبيه في الوتر لحن ،والألم أغنية ، والاستعارة في قصيدي عازف ) تجد اكتمال الصورة الكلية لجمال الإبداع التصويري الحركي في الطيران واهتزاز الوتر ، والصوتي في اللحن والأغنية ، والألوان في لون الطير وحروف الكتابة للقصيدة ولون الوتر .وما سبقه في النص من تكامل تلك العناصر في تجربتها الشعرية الخلابة . شكرا للشاعرة العراقية القديرة صباح الحكيم عاشقة اللغة العربية التي أمتعتنا بأنغام لغة الضاد الخالدة .وشكرا لكم على حسن متابعتكم واستماعكم لي وصبركم معي .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )