نقد وتحليل لنص أدبي (2) قصة قصيرة

  
الكذب الجميل ( قصة قصيرة )

للكاتب حسن الحسين 
أجلس خلف مكتبي مصلوبا أما شاشة الكمبيوتر..وينتشر حولي قطيع من الزملاء الموظفين أمثالي.. وقد ابتدعوا وسيلة لتمضية الوقت والتسلية البريئة..
إنها صرعة "الكذب الجميل"..
تلك الصرعة التي تفشت بين طاولاتنا ومصنفاتنا وأوراقنا وغدت مواطنة لها كامل الحقوق في الاقامة معنا.. لكني كنت خارج السرب لأنني جديد في القسم بينما بقية الزملاء تعتقوا هنا ولهم خدمة تقدر بعشرات السنين..
بدأت أحاول التأقلم معهم والانضمام اليهم فشاركتهم وجبات الفكاهة ومراسم ارتشاف القهوة السوداء في الصباح وتهاني المناسبات..إنما بقيت خارج حلقة الكذب فلم أؤيد أو أبارك أو أعترض على أي كذبة يرويها أحد منهم
مع الوقت خشيت أن يتحاشاني زملائي كبعير أجرب فقررت أن أندس في طقوسهم وأدخل سوق "الكذب الجميل" أبيع وأشتري ولا أكتفي كعادتي بالفرجة على معروضات الحوانيت
قلت لهم ذات صباح:
 اسمعوا ياجماعة اللي صار معي يوم الجمعة
توجهت نحوي رادارات عيونهم لالتقاط البث الحي لروايتي وتم توليف أسماعهم لموجتي بانصات خاشع..ماجعلني أتصدر في جلستي وأقول:
- دخلت إلى سوبر ماركت حارتنا..أتبضع حاجيات البيت فالتقيت بالرئيس
- رئيس الدائرة أو رئيس المؤسسة..
 لا بل رئيس الجمهورية رضي الله عنه..ومعه ابنه ينتقي له كوندر سوربريز.. وكان حيران في الاختيار يلتقط البيضة ويهزها قرب اذنه وبعدين يعيدها وياخذ غيرها وهكذا..قربت منه وسلمت عليه وعرضت مساعدتي فقال : والله ياريت لأني خايف تطلع الهدية ذاتها مثل امبارح .. المهم اخترت له بيضة ولما وصلنا ع الصندوق أصريت أني أدفع فتشكرني كثيرا وقال الله يرزقك ويخلي لك أولادك..وودعني وهو يدعو لي..
أشاح عني كافة الزملاء وضاعت من وجوههم شهية الاصغاء وتهامست عيونهم بالخيبة ونطق أحدهم أخيرا
 في خلل في السناريو..
فقلت مندهشا:
- معقول ما صدقتوني ياجماعة؟
:- فقال رئيس القسم وهو خبير في فن "الكذب الجميل"
- شوف ياأستاذ..رئيس الجمهورية لايتسوق من السوبر ماركت لاسيما في حارتك العتيقة..وليس هو من الصحابة الأجلاء..وأصغر أبنائه ضابط في الجيش..ولايشتري بيضة في اليوم ويخاف من تكرار الهدية.. ولست أنت من يدفع عنه أو عن غيره، وقد عرفنا كرمك وأنت تأتي إلى الدائرة حافي اليدين من أول يوم شفناك في الدائرة عندنا.. و يبدو في جهة معينة دستك حتى تزحلقنا بالكلام وتسلخنا تقارير
أعلنت فشلي واستسلامي وقلت:
- الموضوع ياجماعة هو محاولة للدخول في شلتكم وممارسة الابداع في "الكذب الجميل"..هذه كل القصة..
فقال الآخر من بعيد:
- ما قلنا لك في خلل في السيناريو.. الكذب صنعة ولها أصولها
- علموني ياجماعة.. وأنا بكرة بدي أشتري لكم حلويات وشوكولاه وتورتة على حسابي
فأجاب رئيس القسم:
- بس لاتشتريها من السوبر ماركت في حارتك حتى لاتصادف الرئيس هناك ويكون جوعان.. وتضطر تعزمه..وماتكفينا الحلويات
التحليل النقدي للقصة :
اللغويات العربية للنص
القصة تخلط بين اللغة الفصحى ، واللغة الدارجة العامية ، محاولة من القاص جعلها أقرب إلى لغة الاحتكاك اليومي الواقعية المحكية
فهناك ألفاظ مثل : ( اللي ) و ( بعدين ) و ( ياريت ) و ( امبارح ) و ( ع الصندوق ) و ( أصريت ) و ( يخلي لك ) و ( شوف وشفناك ) و ( دستك)
 ( بكرة بدي ) و ( بسْ )
بينما هناك عدد من الألفاظ الأخرى غير عربية ، ولم يضع الكاتب حولها قوسين نحو الألفاظ : ( الكمبيوتر ) و ( سوبر ماركت ) و (كوندر سوربريز)
و ( السناريو) و (شوكولاه وتورتة ).
وكان يمكن للكاتب أن يجعل قصته باللغة العربية السهلة مستخدما بدائل الكلمات العامية الدارجة ، وهي قريبة إلى فهم المتلقين فيقول :
(التي ) و ( بعد ذلك ) و ( ياليت ) ( أمس ) و ( على ) و ( أصررت ) و( ( يبقي لك ) و ( انظر ورأيناك ) و ( دفعتك ) و ( غدا أريد ) و ( كفى )
وإن كان بعض هذه الألفاظ العامية له أصل قريب في الفصحى مثل :
( أصريت وشوف وشفناك وودستك وبكره )
ولما كانت الكلمات الأجنبية التي لجأ إليها لم تدخل المعاجم العربية فكان يكفيه أن يضعها بين قوسين ، إن لم يستخدم البديل العربي لها مثل :
( الحاسوب ) و ( السوق الكبير) و ( حذاء ) و( التصور ) و ( الحلوى والكعكات )
أو يجعلها باللهجة المحلية المحكية ، وهنا تصبح من الأدب الشعبي .
فكرة  القصة :
أحداث القصة تدور حول قضية اجتماعية سلوكية ، تنتشر بين جماهير درجت على انتهاج التبرير لمخالفة الحقيقة بالتحدث بالكذب المزين ويقولون عنه إنه مباح ، ويسمونه كما عُنْوِنَتْ القصة ب ( الكذب الجميل)
ويستهوي هذا السلوك المخالطين لأصحابه محاولين تقليدهم للباطل وهم
غافلون عن مضاره ومساوئه ، فيكشفهم عجزهم عن ممارسة هذا السلوك
ربما لنقاء طويتهم ، لو وجهت التوجيه السليم .
أسلوب القصة :
كتبت القصة بأسلوب سردي حواري على لسان بطل القصة ( القاص )
بادئا إياها بقوله : ( أجلس ) بصيغة المضارع المتجددة التي توحي بتعوده
المتكرر ، وإدمانه الجلوس أمام الحاسوب حتى يتصلب ظهره من كثرة الساعات التي يقضيها خلفه ، بينما يشاركه التواجد زملاؤه من الموظفين في قضاء أوقاتهم في لعبة الحكي والكذب لملء فراغ حياتهم
وتتصاعد الأحداث لتتشابك مكونة عقدة القصة ؛ وهي محاولة تغيير سلوك البطل ليشارك زملاءه لعبتهم ( الكذب الجميل ) بالتدريج ، حتى يبلغ الصراع قمته بانخراطه في اللعبة دون معرفة أصولها ، ثم تبدأ النهاية في اقتراب الحل وهو الإعلان عن فشل البطل في اللعبة ، وطلبه من رفاقه أن يعلموه إياها .
الشخوص :
البطل : موظف حكومي في قسم يمتليء بزملائه الذين لا عمل لهم أو الذين أهملوا أعمالهم ، وتفشت السلبية بين طاولاتهم  ومصنفاتهم وأوراقهم وراحوا يقضون حياتهم في اللهو والعبث وارتشاف القهوة  واختلاق الحكايات الكاذبة ، والجلوس بدون عمل يتفاكهون بلعبتهم الفارغة 
رئيس القسم : وهو المتقن للعبة ، وقدوة العاملين في الفوضى والإهمال
وهو المحاور للبطل ، مع اثنين من المجموعة حول اكتشاف فشل مدمن الحاسوب في المشاركة في لعبة الكذب الجميل .
المكان والزمان :
في أحدى الدوائر الحكومية داخل قسم من أقسام المؤسسة ، أثناء فترة العمل الرسمية ، مما كشف عنه حديث البطل عما حدث معه يوم الجمعة
تعليق على أحداث القصة :
حاول القاص أن يبرز في كذبه الجميل غير المبرر تقارب فئات المجتمع
ولقائه برئيس الجمهورية في أحد محلات التسوق ومعه ابنه ، مما دعا رئيس القسم بالإعلان عن وجود الفوارق الطبقية الكبيرة ، وكيف يمكن
أن يأتي للحارة العتيقة التي يسكنها البطل ، وبما يرمز الكاتب إلى الرئيس السابق المخلوع وابنه المتأنق ، وكيف يمكن أن يشتري بيضة كبقية المواطنين الفقراء ؟ وهذا يشير إلى الاختلاف الطبقي والاقتصادي البَيِّن
وتنهتي القصة بسخرية رئيس القسم من البطل ومن رئيس الدولة الجوعان الذي سيأخذ ما ينوي البطل رشوتهم به ليعلموه لعبتهم . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )