لغتنا العربية (عظمتها وخلودها)

كتب الأستاذ : ابراهيم جلال
نزل القرآن الكريم بلغة العرب ، ففهموا معانيه، وفقهوا أحكامه ،
وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إذا استغلق عليهم شئ منه سألوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ،
روى البخاري عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية :
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) " الأنعام : 82 "
شق ذلك علي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
( ليس كما تظنون ، إنما هو كما قال لقمان لابنه : ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) "لقمان : 13"
(1) .وختم الإمام السيوطي (ت911هـ) كتابه
" الإتقان في علوم القرآن،، بروايات متعددة، تتضمن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثير من ألفاظ القرآن الكريم ،
ورتبها السيوطي على حسب ترتيب القرآن ،
وجاءت هذه الروايات في حوالي أربع وأربعين صفحة .
(2) .وبعد انتقال النبي صلي الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى ، احتكم الصحابة ـ في فهم ألفاظ القرآن الكريم ـ إلى لغة العرب ولسانهم؟
فقد كانوا يخشون القول في كتاب الله دون علم فها هو سيدنا أبو بكر رصي الله عنه يُسأل عن معنى قوله تعالى : "وفاكهة وأبا" " عبس :31
فيقول : (وأي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ، إن إنا قلت في كتاب الله مالا أعلم ) .
وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ نفس الآية على المنبر ، فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟
ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا هو الكَلَفَ يا عمر .
وعبد الله بن عباس رضي الله عنه يقول : كنت لا أدري ما (فاطر السماوات) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول : أنا بدأتها .
ويقول : ما كنت أدري ما قوله : (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) "الأعراف: 89)
حتى سمعت قول بنت ذي يزن : تعال أفاتحك، تقول : تعال أخاصمك.
(3) كان الصحابة ـ إذن ـ يجهلون معاني بعض ألفاظ القرآن الكريم ، لكنهم كانوا يسألون من له علم بذلك ،
روى سعيد بن المسيب قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : يا أيها الناس ، ما تقولون في قوله عز وجل ( أو يأخذهم على تخوف) " النحل: 47"
فسكت الناس ، فقال شيخ من هذيل : هي لغتنا يا أمير المؤمنين ، التخوف التنقص ،
فخرج رجل فقال : يا فلان، ما فعل دينك قال : تخوفته ، أي تنقصته ، فرجع فأخبر عمر ، فقال عمر ، أتعرف العرب ذلك في أشعارها ، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه :
تخوف الرحل منها تامكا قرِدا= كما تَََََخَوََّف عودَ النبعة السفن
فقال عمر : يا أيها الناس ، عليكم بديوانكم ، شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم ، ومعاني كلامكم
(4) ومن هذا النوع ـ الاحتكام إلى لغة العرب في فهم معاني ألفاظ القرآن الكريم ـ
مسائل نافع ابن الأزرق (ت56هـ) التي ألقاها على حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه ,
وكان ابن عباس يشرح معنى اللفظ ، ثم يؤيد شرحه ببيت من شعر العرب ،
يروي ذلك السيوطي فيقول : بينما عبد الله بن عباس جالس في فناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسـألونه عن تفسير القرآن ، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به : فقاما إليه ، فقال : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا ، وتأتينا بمصادقه من كلام العرب ، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين ،
فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما ،
فقال نافع :أخبرني عن قول الله تعالى : (عن اليمين وعن الشمال عزين ) " المعارج :37" .
قال : العزون : حِلَقُ الرفاق.
(5) ، قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أنا سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
قال : فأخبرني عن قوله : ( وابتغوا إليه الوسيلة) "المائدة: 35" قال الوسيلة : الحاجة، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم : أما سمعت عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة =إن يأخذوكِ تكحَلي وتخضبي
قال : أخبرني عن قوله : ( شرعة ومنهاجا) " المادئدة : 48" قال : الشرعة : الدين ، والمنهاج : الطريق ، قال وهل تعرف العرب ذلك ، قال : نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد الطلب ، وهو يقول :
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى= وبين للإسلام ديناً ومنهاجا
وظل نافع بن الأزرق يسال ، وعبد الله بن عباس يجيب ، مؤيداً إجابته ببعض ما ورد من شعر العرب ، "
وكانت هذه المحاورة إحدى المقدمات الأولى لنشأة علم التفسير ،
كما كانت أيضاً من بين المادة التي ساقها علماء اللغة الأول لنشأة المعجم العربي ، غير أنها لم تكن مدونة ، بل كانت رواية يعتروها النقص والتعديل من راوٍ لآخر .
ومن هذه المحاور يتضح لنا أن طليعة المعجم العربي جاءت من رسالة الإسلام ،
وأول من حمل رايتها عبد الله بن عباس (المتوفى 68هـ) فقد كان يؤدي ما يؤديه المعجمات للسائلين "
(6) ولا عجب في ذلك فهو القائل : " الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه "
(7) .وكان بعد ذلك أن انطلق العلماء إلى البوادي رغبة في مشافهة العرب وتلقي اللغة عنهم ، فجمعوا كثيراً من الألفاظ ، فالكسائي (ت189هـ) سأل الخليل بن أحمد (ت175هـ) قائلاً : من أين أخذت علمك هذا؟ فقال له : من بوادي الحجاز ونجد وتهامة ، فخرج الكسائي إلى البادية ثم رجع بعد أن أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة سوى ما حفظ
(8) .وكان الباعث إلى ذلك العمل على سلامة النص القرآني من يتطرق إليه اللحن ،
فقد فشا اللحن وانتشر بعد الفتوحات الإسلامية وانتشار الإسلام، ودخول الأعاجم فيه فانتشر اللحن على ألسنة العامة والخاصة حتى من العرب أنفسهم ،
من ذلك : أن أعرابياً سمع والياً يخطب فلحن مرة أو اثنتين ، فقال : أشهد أنك ملكت بقدر .
وسمع أعرابي إماماً يقرأ قول الله تعالي : ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) " البقرة : 221" بفتح تاء تنكحوا فقال سبحان الله ! هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده ! فقيل له : إنه لحن ، والقراءة (تُنكِحُوا) فقال : قبحه الله ، لا تجعلوه بعدها إماماً فإنه يُحِل ما حرم الله
(9) وهذا عبد العزيز بن مروان يلحن لحنا قبيحاً ، فيجلس بعده أسبوعاً في بيته يتعلم العربية ، وذلك أن رجلاً دخل يشكو صهراً له، فقال له : إن ختني فعل بي كذا وكذا ، فقال له عبد العزيز : من ختنك ؟ فقال ختني الختان الذي يختن الناس ؟ فقال عبد العزيز لكاتبه : ويحك ! بم أجابني ؟ فقال : أيها الأمير ، إنك لحنت ، وهو لا يعرف اللحن ، كان ينبغي أن تقول له : من ختنك؟ فقال عبد العزيز أراني أتكلم بكلام لا تعرفه العرب ، لن أُحَدَّثَ الناس حتى أعرف اللحن ، فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية ، فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس ،
(10) وكان بعد ذلك يعطي على العربية ويحرم على اللحن ، حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة وقريش ، فجعل يقول للرجل ممن أنت ؟ فيقول له : من بني فلان، فيقول للكاتب : أعطه مائتي دينار ، حتى جاءه رجل من بني عبد الدار ، فقال : ممن أنت؟ فقال :من بنو عبد الدار ، فقال تجدها في جائزتك! وقال للكاتب أعطه مائة دينار
(11) .هذا عن فُشُوِّ اللحن في الخاصة ، أما عن فشوه في العامة فيتضح من هاتين الروايتين : دخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون ، فقال : سبحان الله ! يلحنون ويربحون ، ونحن لا نلحن ولا نربح !ودخل رجل على زياد فقال له : إن أبينا هلك ، وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا ، فقال زياد : ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضيعت من مالك
(12)...............
(1) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين باب : ما جاء في المتأولين 12/303(6937) .
(2) الإتقان 4/214: 257 ط دار التارث ـ القاهرة .
(3) السابق 2/4 ، 5 .
(4) السابق 2/4 ، 5 .
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي صـ10، 11ـ 111 .
(6) في الأصل (الحلق الرقاق) ولعل الصواب ما اثبت ، ففي اللسان 4/2935(ع ز ا) " والعزة : الجماعة والفرقة من الناس ... معني عزين حلقاً وجماعة جماعة " .
(7) المعاجم العربية مدارسها ومناهجها د/عبد الحميد أبو سكين صـ13، 14 .
(8) الإتقان 2/55 ، المزهر 2/302 .
(9) تاريخ بغداد ، للبغدادي 11/404 .
(10) عيون الأخبار لابن قتيبة2/160 .
(11) أخبار النحويين لابن أبي هاشم المقرئ صـ29، 30 .
(12) عيون الأخبار 2/159 .
==================
المصدر: كتاب أصول اللغة العربية للدكتور / محمد موسى جبارة ـ مدرس أصول اللغة بجامعة الأزهر.منقول .


ردي على الأستاذ : ابراهيم جلال :


بارك الله فيك أخي الكريم الأستاذ ابراهيم جلال هذا الكتاب الذي نقلت منه. قرأته أكثر من مرة مستمتعا ومستفيدا منه وناقلا منه في دروسي ومحاضراتي .
وهو من الكتب التي شجعتني على الدعوة لتكوين :
( رابطة محبي اللغة العربية )للحديث عن روائع لغتنا العربية الخالدة . والتي حفظها القرآن الكريم بحفظ الله له .
( بل هو قرآن مجيد , في لوح محفوظ ) الآيتان (21 و22) من سورة البروج .
كما قال عنه : ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) آية رقم (2 ) سورة يوسف
و نترك كتاب الله سبحانه وتعالى القائل عن لسان العرب ( اللغة العربية ) في آياته الكريمة ليخبرنا بمكانة تلك اللغة البليغة بقوله تعالى : .(نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين.)من آية (193 إلى 195) سورة الشعراء
وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة مما يؤكد على عظمة اللغة العربية ومكانتها عند الله سبحانه وتعالى :
( وإنه لتنزيل رب العالمين ( 192 ) نزل به الروح الأمين ( 193 ) على قلبك لتكون من المنذرين ( 194 ) بلسان عربي مبين ( 195 ) )
يقول تعالى مخبرا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه :
( وإنه ) أي : القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله : ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث ) [ الآية ] . ( لتنزيل رب العالمين ) أي : أنزله الله عليك وأوحاه إليك . ( نزل به الروح الأمين ) : وهو جبريل ، عليه السلام ، قاله غير واحد من السلف : ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وقتادة ، وعطية العوفي ، والسدي ، والضحاك ، والزهري ، وابن جريج . وهذا ما لا نزاع فيه .
قال الزهري : وهذه كقوله ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) الآية [ البقرة : 97 ] .
وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض .
( على قلبك لتكون من المنذرين ) [ أي : نزل به ملك كريم أمين ، ذو مكانة عند الله ، مطاع في الملأ الأعلى ،
( على قلبك ) يا محمد ، سالما من الدنس والزيادة والنقص ;
( لتكون من المنذرين ) ] أي : لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه ، وتبشر به المؤمنين المتبعين له .
وقوله : ( بلسان عربي مبين ) أي : هذا القرآن الذي أنزلناه إليك [ أنزلناه ] بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل ،
ليكون بينا واضحا ظاهرا ، قاطعا للعذر ، مقيما للحجة ، دليلا إلى المحجة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي ، حدثنا عباد بن عباد المهلبي ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم : " كيف ترون بواسقها ؟ " . قالوا : ما أحسنها وأشد تراكمها .
قال : " فكيف ترون قواعدها ؟ " . قالوا : ما أحسنها وأشد تمكنها .
قال : " فكيف ترون جونها ؟ " . قالوا : ما أحسنه وأشد سواده . قال : " فكيف ترون رحاها استدارت ؟ " . قالوا : ما أحسنها وأشد [ ص: 163 ] استدارتها .
قال : " فكيف ترون برقها ، أوميض أم خفو أم يشق شقا ؟ " . قالوا : بل يشق شقا . قال : " الحياء الحياء إن شاء الله " .
قال : فقال رجل : يا رسول الله ، بأبي وأمي ما أفصحك ، ما رأيت الذي هو أعرب منك . قال : فقال : " حق لي ، وإنما أنزل القرآن بلساني ، والله يقول : ( بلسان عربي مبين ) .
وقال سفيان الثوري : لم ينزل وحي إلا بالعربية ،
ثم ترجم كل نبي لقومه ، واللسان يوم القيامة بالسريانية ، فمن دخل الجنة تكلم بالعربية . رواه ابن أبي حاتم .
(، و )هذا لسان عربي مبين
(, و )كذلك أنزلناه حكماً عربياً
(، و )كذلك انزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد
(، و )قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون
(، و )كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون
(، و )كذلك اوحينا إليك قرآناً عربيا
(، و )إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون
(،و ) وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا.،
ولم يقل قرشيا، ولو نزل بلغة قريش لما سكت اللَه تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إى: كان أفصح السنة العرب .
============
من مصادر الرد :
1- القرآن الكريم .
2-أصول اللغة العربية : محمد موسى جبارة
3- تفسير ابن كثير لسورة الشعراء.
4- تفسير المنار ج‍2 ص161.5
5- البرهان في علوم القرآن (1/230).
6- الإتقان في علوم القرآن (1/159).
7- الزمخشري (3/ 128) طبع دار الفكر.
8- البخاري في فضائل القرآن حديث رقم (4981).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )